رواية وادي ملح كما لو لم نعرفها من قبل

كايد أبو الطيف

رواية وادي ملح كما لو لم نعرفها من قبل، تعود مجدداً وبصدى صاخب

لم يرق لي وجود أورنا العقاد في مسرحيد عكا الأخير (الدورة الحادية عشرة). ولا القضية التي تحملها على كتفها، والتي ترجع للرواية الفلسطينية التي لا يحق لأحد المساس بها أو إستنطاق الجرح والألم الذي لا يعود الا للفلسطينية أو الفلسطيني “القح”، (مش مكفي إغتصبوا الأرض، كمان الذاكرة والرواية، وين وصلت فيهم الوقاحة). أذكرها منذ سنوات مضت من خلال عرض الميدان مسرحيتها “غيوم في طريق جبلية”. التي قامت بتأليفها وإخراجها، والتي تسرد قصة الشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوى طوقان، وبيت طفولتها في نابلس، الذي اصيب في هجوم إسرائيلي، شاعرة شابة تجبر على مواجهة العجز واليأس المروّع من الحياة تحت الإحتلال. بعد إنتهاء العرض لم أطرح عليها السلام، ولم أربارك لها العمل الذي حاز على جائزة مهرجان عكا، وقامت بجولة عروض محترمة في أوروبا. كل ذلك لم يعطني بعد الإنطباع الجيد عن سرها الدفين سرد روايتنا نحن. عنها غير آبه لكل إنجازتها الكثيرة في هذا المجال. ذهبت مباشرة لأبارك فؤاد عوض نشاط مسرح الميدان آنذاك لأترك حيفا عائدا أدراجي إلى النقب حيث رهط. سبب تواجدها في مسرحيد عكا 2012. كان تقديم إنتاج “يافتي” أيضاً من تأليفها وإخراجها التي تتحدث عن وصول هاجر ليافا بعد ان هُجرت منها عام 1948 وعاشت مع عائلتها في عمان، منذ ستون عاماً وتحمل سراً دفيناً عن حبيب ورضيع تركتهم حينها على أمل العودة. وبذلك تأخذنا هاجر في مسيرة بين أزقة يافا بحثًا عن الماضي وعن بيتها وبيت حبيبها وقصص تتنقل بين البسمة والدمعة وشظايا الحياة. مكتشفة بذلك يافا جديدة غير التي عرفتها، يافا بلا ذاكرة التي حملتها كل العقود الستة الأخيرة.

طبعا وكطبع كل رجل يحاول جاهدا أن يكون مهذب، في كل مرة ألتقيها أيام المهرجان أطرح عليها السلام وهي بهدوئها الذي لم يرق لي بتاتا تعاود التحية وكأن كل شي طبيعي. لم أرتح لكل المبدعين اليهود/ الإسرائيليون/ الصهاينة / ال.. حملة جوازات السفر الثلاث.. الخ. الذين بعدما إستحوذوا على الحيز العام واقتلعوا شعب كامل من ذاكرته وأرضه، ولم يبقوا له إلا فتات الذاكرة المدفونة بجوارير سوداء محكمة الإقفال في أقاصي عتمة الروح، يأتون اليوم وبكل وقاحة ليتحكموا أيضاً بذاكرة الشعب ليحكوا لأنفسهم، ولنا، وللعالم فظاعة قصتنا التي ارتكبوها بحقنا! يا لها من مسخرة.. مستلمين لذلك بمحض إرادتنا..

لكن لماذا كل هذه المقدمة؟ وما المختلف هذه المرة في باكورة أورنا عقاد الروائية التي لا تختلف عن نهج حياتها وعملها منذ عقود من خلال مشروعها الفني في المسرح والتأليف والترجمة؟

وادي ملح قصة شعبين على خلفية أحداث إنتفاضة الأقصى، وأحداث أكتوبر الدامية على أرض مغتصبة يتقاسمون نفس البحر، ونفس الوادي. الفردوس المفقود من جهة و”زخرون يعكوف” من الجهة المقابلة وذاكرة الطنطورة التي تأبى النسيان، كيف لا وهي تحمل ذكرى أبشع المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ولم يكتفوا بذلك فبعد سلسة المجازر قاموا بتهجير السكان للضفة الغربية والأردن وسوريا والعراق. تجمع أورنا عقاد أشلاء الذاكرة التي تملئ الوادي المالح لتزود أشخاصها الطاقة للإستيقاظ ليوم جديد. أورنا عقاد تختار الطريق الوعر غير المعبد، المخيف والغير معروف وتزج نفسها به دون مقدمات ككل اعمالها السابقة مبدعة تتحدى نفسها مع كل ابداع جديد، وبدرجة صعوبة أقسى.

عائلة محمود صالح عبدالكريم، تعيش في الفريديس ككل العائلات الفلسطينية في القرية وككل عربي في إسرائيل وبدون إرادته يفضل نهج حياة صراع البقاء متخذا من (بدنا نعيش، ونمشي الحيط الحيط، ونقول يارب الستر). نهجاً لحياته مع المغتصب الصهيوني. وبذلك تمتاز الفريديس بالأمن والأمان ومكان جيد لليهود أيام السبت. غير أن هذا النظام لا يليق بمحمود الذي يرى نفسة من الجيل الجديد مرفوع الهامة منتصب القامة ليس كما أبيه الذي يخاف من ظله ومن اليهود ( علماً أن أبوه شاهد عيان لمقتل أبيه ورجال كثيرون من الطنطورة، وهو دون الخامسة عشر على يد العصابات الارهابية الصهيونية وهو مع باقي الصبية من أمروا على يد الصهاينة أن يدفنوا الرجال على رمل البحر ليبنى على قبرهم الجماعي، كيبوتس!)

عجبت لوصفها الدقيق لإحداثيات صغيرة جداً، ولفروق دقيقة لا يعرف قيمتها إلا كاتب متمرس من جهة ومن جهة أخرى أن الكاتب عايش أهل المنطقة وتحدث لغتهم، وعرف عاداتهم وتقاليدهم الدقية، هذا العمل يفوق عمل باحث الحضارات والشعوب بل عليه التغلغل الى أخمص قدميه في الشعب حتى يصل الى أدق التفاصيل والأمثلة على ذلك دون حصر على امتداد وادي الملح الدامي منذ النكبة وحتى فض بكارة آية بطلة الرواية على رمال شاطئ الطنطورة على يد شاؤول مربيها ومعلمها مادة الأدب العبري في مدرسة الكيبوتس. تتحدث أورنا عقاد بوقاحة وجرأة الأدباء الكبار وبتناغم شديد لإيقاعات فدوى طوقات، وإبراهيم نصرالله، وجبرا ابراهيم جبرا. كم سيكون فخور بك السينمائي فرانسوا تروفو صاحب نظرية المؤلف على هذا العمل الذي يتخذ من حياة المبدع مادة دسمة لحكايته، كما أنه لنا الحظ أن جان لوك غودار لم يفارقنا بعد، ولم يتوانا في مقاطعتة الثقافية والفنية لإسرائيل.

لكنها لا تعطي حياة هينة لعائلة شاؤول فقد اتت بهم من حياة الترف ومن عاصمة الدنيا نيويورك، إلى الوادي لتقاربهم بمصيرهم وهنا تلتحم الدراما أكثر بعدما إنطلقت السمعه كالنار في الهشيم بين سمير وآية بنت محمود صالح. الأب يأتي بها لمدرسة يهودية شاؤل ترك حياة المسرح والأكاديميا وأتى بزوجته المحامية حاغيت التي تعرف اليها في مهرجان عكا للمسرح الآخر (قديش هالدنيا صغيرة) ويقوم بتدريس مادة الأدب، وتبدأ علاقة حب ممنوعة ومحرمة خارج نطاق الزوجية بين ايات إبنة السادسة عشر (في جيل إبنته نوعام) وشاؤول سيلع إبن الثانية والخمسين.

شاؤول منذ اكتوبر 1973 وقتله بدم بارد جندي مصري بأبشع صورة ممكن لذئب ضاري أن يتخيلها والذاكرة لا تريحه. عاش في بيت خيم الإقفال فيه على الذاكرة عائلته من نجوا من محرقة الآلة النازية، وهو اليوم لا يعلم ما سر الشر الذي يحركة دون السيطرة على ذلك.

وادي ملح، يقوم بثبيت الإعتقاد السائد أنه بإفتقاد الأرض نتفتقد العرض والشرف، عندما زجت اورنا عقاد الصهيوني المحب للبلاد مع الفلسطيني الذي لا يعرف بلاد غير فلسطين. من هنا تبدا الحكاية ولم يسلم منها الطرفين. النار تكوي الطرفين وبنفس الايقاع من خلال قصة حب ممنوعة.

تنهي القصة بطعم أشد ملوحة مما إبتدات به أحداث الدراما الفلسطينية/ الإسرائيلية. من خلال وادي ملح لمبدعة احترمت كل شخصياتها وتعاملت معهم بتقدير لا مثيل له في الأدب العبري الحديث وبما أن الصراع دائم فللحياة زخم لا مثيل له، التي استطاعت العقاد ومن خلال 240 صفحة فقط أن تنسج حكاية صراع في حلقة مغلقة ينتهي ويبدأ من نفس نقطة الإنطلاق، حري بنا الإشادة لدورها الريادي بها لتجد الرواية قريبا طريقها قريبا الى العربية.

وادي ملح، عمل جريء وقوي لا يذهب الى الاماكن المعروفة والمستخدمة درامياً بل الى الغريب والغير مكشوف ولهذه الجرأة المليئة بالعاطفة والحب وحنان الأم، أمام جيل كامل يجر الهزيمة وويلات الخيبات المتراكمة على كاهله المثقل.

 لم تأت العقاد لتقول أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مظلوم بل على العكس، الطرفين مهزومين ومن تدفع صك الهزيمة هي المرأة من الجهتين التي تحولت تقاسيم وجهوههن الشاحبة إلى وجوه رجالية لا تليق بهن، أهي دعوة النساء للبحث عن “الرجل” الذي طالما حلمن به في مراهقتهن ولم يجدنه حتى الآن، جيل الحب والحرب الذي ويصخب فيه الجلاد والضحية بالقدر الذي تساوت فيه الهزيمة على هذه الفلسطين التي تكشف الوجه المهزوم للرجل وحلم المرأة المهزوم أصلاً.

وادي ملح ولدت من الألم وإلى الألم تعود، ايات تزوجت على الطريقة التقليدية “البدل”، وشاؤول يعيش تحت رحمة رفيقه من الكيبوتس الذي بني على يد رجال القرية على جثماين آبائه وأجدادة، فلسطين الحاضرة الغائبة لا تريد الصمت مجدداً وتعاودنا مع صبيحة كل فجر جديد لعالم لا يأبه بمظاهر إسرائيل الجديدة التي بنيت على عزم الصهاينة الذيين يحملون ندوب وجروح مفتوحة تلقاء القتل والتشريد لشعب لا يغادره في يقظته ومنامه، إنه قدره الذي يلاحقه ليل نهار والأرواح التي تسحبه اليه بكل جنون، وادي ملح وكأننا لم نعرفها من قبل تعود مجدداً وبصدى صاخب على محور فردوس مفقود وذكرى (زخرون) لا تندمل!

نُشر بواسطة HUNA ALJANOUB

هنا إنتاج - كايد أبو الطيف: دراسات ثقافية وتقاطعاتها المعاصرة مع كورونا بصحبة السياسة والاقتصاد

أضف تعليق